بعد دخول التظاهرات الشعبية بالسودان شهرها الثالث، اتخذ الرئيس عمر البشير سلسلة من الإجراءات التي تمثل تحولًا نوعيًّا في إدارة الأزمة السياسية بالبلاد، بغية تخفيف حالة الاحتقان السياسي، ومعالجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وضمان الأمن بالبلاد. وقد انقسمت الآراء بشأن مدى نجاح هذه الإجراءات في تحقيق غاياتها، والسيناريوهات التي يحتمل أن يئول إليها مستقبل البشير ونظام الإنقاذ الوطني، وهو ما سوف يتم تناوله خلال هذا التحليل.
إجراءات التهدئة:
فاجأ الرئيس السوداني شعبه بخطاب جماهيري، في الثاني والعشرين من فبراير الجاري، تضمّن سلسلة من الإجراءات، أهمها: حل الحكومة الاتحادية، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية لتسيير الأعمال، وعزل جميع ولاة الأقاليم، وإعلان حالة الطوارئ لمدة عام بكافة ربوع البلاد، وتأجيل النظر في التعديلات الدستورية المتعلقة بعدد الدورات الرئاسية، واتخاذ إجراءات عاجلة لإصلاح الأوضاع الاقتصادية.
وألقى البشير خطابه وسط حشد ضم أركان نظامه من العسكريين والمدنيين، من كافة المستويات القيادية، في رسالة بالغة الدلالة، موجهة للداخل والخارج، تؤكد استمرار تماسك النظام، وقد جاءت لغة الخطاب تصالحية بشكل لافت، وذلك للمرة الأولى منذ اندلاع الحركة الاحتجاجية في ديسمبر 2018، بما يعكس الحرص على مد الجسور مع الحركة الاحتجاجية وتفادي التصعيد.
وفي هذا الإطار، توقف البشير عن اتهام المحتجين بالعمالة والتآمر، وبتلقيهم تمويلًا وتوجيهات من الخارج خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل. وأكد تفهمه لمطالب المحتجين، مقدمًا العزاء لعائلات الضحايا الذين لقوا حتفهم خلال التظاهرات، ومشددًا على إجراء تحقيق عادل في أحداث العنف التي تخللتها، لتحديد المسئول عنها وإنصاف الضحايا.
وتضمن الخطاب توصيفًا للأوضاع الراهنة بالبلاد، ومقترحات لتسوية الأزمة، والقرارات اللازمة لتهيئة البلاد لإنفاذ الحلول، عبر حوار سياسي جامع، لا يستثني أحدًا، مع إيلاء أهمية كبيرة لدور الشباب في الحياة السياسية، والتحذير مما أسماه "الحلول الصفرية"، التي قد تُرجع السودان إلى الوراء، وتجلب له الفوضى العارمة.
دوافع "البشير":
جاء خطاب البشير في هذا التوقيت مدفوعًا بأمرين أساسيين؛ أولهما هو تصاعد الحركة الاحتجاجية، والثاني هو قطع الطريق على التدخلات الخارجية لدعم المحتجين. إذ دخلت الاحتجاجات شهرها الثالث بلا توقف، بما يؤكد خطأ الرهان على عنصر الوقت في فتور عزيمة المحتجين، الذين يتبعون نمط "المقاومة الصبورة" ضد النظام، والذين يُحتمل أن ينتقلوا لمرحلة "العصيان المدني الشامل"، وهي مرحلة لن يكون بمقدور النظام تحملها، خاصة أن الشعب السوداني يمتلك خبرة منازلة النظم السياسية مثلما حدث عامي 1964 و1985.
كما يتخوف النظام السوداني من التئام شمل المعارضة خلف "كيان موحد"، الأمر الذي قد يُغري الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين بالاعتراف بهذا الكيان الجديد، كممثل للشعب السوداني. وبالتالي يتم تكثيف الضغوط على البشير لتقديم استقالته، على نحو ما حدث في ليبيا عام 2011، عندما تم الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي، بقيادة وزير العدل السابق مصطفى عبدالجليل، كممثل للمعارضة الليبية، والاستناد لذلك في التدخل العسكري من جانب حلف الناتو، للإطاحة بنظام معمر القذافي.
وفي هذا السياق، اكتفت الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي بانتقاد العنف الذي تخلل الاحتجاجات بالسودان، مع المطالبة بإجراء تحقيقات نزيهة بشأنها، دون مطالبة البشير بالاستقالة. وهو أمر مفهوم في ضوء انقسام المعارضة. لكن توحد المعارضة سوف يجعل الأمر مختلفًا. فهو يعني للمجتمع الدولي توافر البديل الذي يمكنه ملء الفراغ الناجم عن خروج البشير ونظامه من المشهد السياسي. وبالتالي يتحقق الهدف المنشود، بالتخلص من نظام الإنقاذ، المصنف كأحد رعاة الإرهاب الدولي، وتجنب الفوضى العارمة بالسودان.
تخوفات المعارضة:
استقبلت المعارضة السودانية خطاب البشير بالرفض، متهمة الرئيس بمحاولة شق صفوف الحركة الاحتجاجية، بالدعوة إلى حوار وطني يستهدف إخماد الاحتجاجات، مثلما حدث في سبتمبر 2013. وهنا استدعت المعارضة خبرة الحوار الوطني الذي دعا إليه البشير عبر "خطاب الوثبة الشهير" بقاعة الصداقة بالخرطوم في 27 يناير 2014، والذي أفضى إلى ترشحه لولاية رئاسية جديدة في أبريل 2015، فيما كانت المعارضة منهمكة في انقسامها بشأن جدوى الحوار، وأولويات الإصلاح السياسي. وفي هذا الإطار يعارض المتظاهرون أربعة أمور:
1- مدة "الولايات الرئاسية": ترى المعارضة أن البشير لا يزال يتمسك بالسلطة، فهو لم يعلن إلغاء التعديلات الدستورية المتعلقة بعدد الولايات الرئاسية، مكتفيًا بتأجيلها، من جانب آخر حاول "البشير" استرضاء المعارضة عبر إعلانه أنه سيكون حكمًا بين الفرقاء السياسيين، وأنه سيقف على مسافة واحدة من الجميع، من منصة قومية، ومن ثم قام بتسليم رئاسة الحزب الحاكم إلى نائبه "أحمد هارون".
2- دعم القيادات الأمنية: حيث قام بتعيين وزير الدفاع عوض محمد ين عوف نائبًا أول لرئيس الجمهورية، ومحمد طاهر إيلا رئيسًا لمجلس الوزراء، وتعيين جميع الولاة الجدد من القيادات العسكرية والأمنية، وهو ما يعني اتجاه البشير لتحصين أركان نظامه، عبر الاحتماء بالقوات المسلحة وقوات الأمن والقبائل الكبيرة.
3- إعلان حالة الطوارئ: فسرت المعارضة هذا الإعلان بأنه يسعى لحظر التظاهرات في السودان، وذلك بموجب حالة الطوارئ التي تم فرضها بالبلاد، وهو ما يعني إمكانية اعتقال المحتجين، وذلك على الرغم من تأكيد النائب الأول للبشير "عوض بن عوف" في 28 فبراير، أن حالة الطوارئ التي أعلنها الرئيس السوداني لا تستهدف إنهاء التظاهرات المطالبة بتنحيه عن السلطة، بل التصدي للتهريب.
4- حلول مؤقتة: كذلك يرون أن القرارات الاقتصادية العاجلة للرئيس البشير لا تعدو أن تكون مجرد "مسكنات مؤقتة" لحالة التدهور في مستوى المعيشة بالبلاد التي تعاني من اختلالات اقتصادية واجتماعية هيكلية، الأمر الذي يعني استمرار معاناة الشعب السوداني.
وعلى ذلك، تعهد تجمع المهنيين السودانيين، وهو الكيان الأبرز حاليًّا داخل المعارضة، بمواصلة المظاهرات حتى تتحقق المطالب الشعبية، وعلى رأسها: تنحي النظام ورئيسه، وتفكيك مؤسساته القمعية، وتسليم السلطة لحكومة قومية انتقالية. وهو الموقف ذاته الذي اتخذه حزب الأمة القومي، الذي يُعد بالإضافة للحزب الاتحادي، أحد أقطاب المعارضة الحزبية بالسودان.
سيناريوهات مستقبلية:
في خضمّ الاحتجاجات المستمرة بالسودان، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات، يحتمل أن يئول إليها مستقبل نظام البشير، وهي:
1- استمرار "البشير": يرى البعض قدرة نظام الإنقاذ على تجاوز الأزمة الحالية والاستمرار تحت قيادة البشير. ولكن ذلك يظل مرهونًا بقدرته على الحفاظ على شبكة الولاء الإثني، وتماسك مؤسسات الدولة، خاصة الجيش، واختراق صفوف المعارضة وتقسيمها، والاستعانة بالحلفاء الإقليميين والدوليين، مع إدخال إصلاحات سياسية واقتصادية تكفل قدرًا من الحريات السياسية، وتسمح للمعارضة بالمشاركة في السلطة، وتؤدي إلى تسوية عادلة للصراعات الأمنية في البلاد، بما يحافظ على وحدة أراضيها.
2- تغير النظام الحاكم: يمكن حدوث هذا السيناريو في حال استمرار الاحتجاجات، وتزايد نطاقها عبر مدن السودان، وتزايد أعداد المنضمين للحركة الاحتجاجية، تحت وطأة التدهور الاقتصادي وانخفاض مستوى المعيشة، على أن يقترن ذلك بنجاح العصيان المدني، وتكوين كيان موحد للمعارضة، يحظى بتوافق معظم ألوان الطيف من الأحزاب والنقابات، ويتمتع بالتأييد الخارجي، خاصة مع جانب الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، وبعض القوى الإقليمية.
في تلك الحالة، من المتوقع تغير نظام البشير في غضون بضعة أشهر. لكن النتائج المترتبة على ذلك سوف تكون وخيمة على الداخل السوداني، وأطراف خارجية أخرى، فعلى مستوى الداخل السوداني، من المتوقع أن يأتي نظام إسلامي جديد بالسودان، يصعب التعامل معه -ولو مؤقتًا- بعكس نظام الإنقاذ الذي كان أكثر براجماتية، رغم كافة الانتقادات الموجهة ضده، لكن هذا لن يحدث بين عشية وضحاها. إذ من المتوقع أن يمر عبر انقسامات حادة داخل صفوف الكيان المعارض الجديد، في ظل وجود عدد كبير من التنظيمات والقوى السياسية والمدنية، ذات التوجهات الأيديولوجية المتباينة، يسارًا ويمينًا.
وبالتالي، سوف يحدث تحول في طبيعة الصراع بالسودان، من كونه صراعًا بين الحكومة والمعارضة إلى الصراع داخل أجنحة المعارضة ذاتها، حيث لا يملك المعارضون أجندة حقيقية لمواجهة استحقاقات وتحديات ما بعد الإنقاذ، الأمر الذي قد يؤدي إلى نوع من فراغ السلطة، ربما يُنذر بحدوث حالة من عدم الاستقرار لفترة ليست بالقصيرة.
3- قيادة سياسية جديدة: يعبر هذا السيناريو عن حالة وسطى بين السيناريو الأول والثاني، حيث يستمر نظام الإنقاذ في السلطة، ولكن من خلال قيادة جديدة تحل محل البشير، الذي سيخرج من السلطة في تلك الحالة "خروجًا آمنًا"، على غرار السيناريو الذي حدث في بعض الحالات، مثل زيمبابوي.
ويمكن تحقق ذلك لدى اتساع نطاق الاحتجاجات الشعبية، وعدم القدرة على مواجهتها، مع تزايد قمع المحتجين، الأمر الذي يشكل حرجًا للمجتمع الدولي، مما قد يؤدي إلى دفعهم للبشير لتقديم استقالته، وذلك لتهدئة الاحتقان الداخلي، مع الحفاظ -ولو مؤقتًا- على مؤسسات النظام، بما يضمن استمرار مصالحه بالسودان، مع إحلال نظام سياسي جديد بالبلاد بشكل تدريجي.
وفي تلك الحالة، سوف تدار السودان من خلال مجلس عسكري، مع تشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة، تضم الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني، وصياغة خارطة طريق للانتقال السياسي، لضمان أمن السودان وسلامته الإقليمية، والحفاظ على وجوده كفاعل دولي يمكن الاعتماد عليه.
ولعل تطورات الأحداث بالسودان ترجح السيناريو الثالث، فالبشير لن يكون بوسعه خوض الانتخابات الرئاسية عام 2020. كما أن خروجه من المشهد السياسي، سوف يُسهم جزئيًّا في تهدئة الاحتقان السياسي بالبلاد. كما يوجد قدر ما من التوافق بين القوى الخارجية على إمكانية بقاء النظام السوداني، كنظام ضرورة، وليس باعتباره الأفضل، نتيجة لعدم الرغبة في تحمل تبعات حالة الفوضى المتوقعة في حال إسقاط النظام بالقوة، فضلًا عن الدور المنوط بنظام الإنقاذ في الترتيبات الأمنية في المنطقة.